منذ ثلاثين سنة حكى لى الراحل الكبير الغالى يوسف إدريس أنه عندما زار الكاتب المسرحى العالمى دورنيمات فى بيته المطل على بحيرة جينيف وسأله عما يشغله الآن، أخبره بأنه متفرغ طوال ثلاثة أشهر لكتابة مقال عن الشرطة! وعندما رأى دورنيمات ملامح الدهشة تجتاح وجه يوسف إدريس، شرح له أن المقالة هى فى واقع الأمر بحث شامل عن الشرطة لدى كل الأحياء. ومن يومها وأنا أبحث عن هذه المقالة دون أن أجدها أو يدلنى أحد عليها، وسأكون شاكرا لو تكرم أحد بذلك، حتى يعفينى من فضول شديد تجاه ما يمكن أن يكون كتبه دورنيمات، ويوفر علىَّ بحثا لم أكف عن مواصلته للوقوف على وجود الشرطة فى كل حىٍّ وفى كل أركان الحياة.
لقد وجدتُ الشرطة ماثلة فى الجهاز المناعى داخل أجسامنا وأجسام كل الكائنات، ووجدتها فى مجتمعات الأفيال والذئاب والطيور والنحل والنمل كما البشر، وعثرت عليها مؤخرا عند الشجر! فالشجر الذى لا يمتلك مثلنا ومثل كل الثدييات رد فعل فورة الأدرينالين عند الخطر «اضرب أو اهرب»، عندما يتعرض لهجمة من جائحة جراد أو غيوم فراشات العث الأسود أو وباء من اليرقات كما يحدث لأشجار غابات الحور والبتولا فى آلاسكا، فإن الأشجار تُصدر تحذيرات لبعضها البعض بطرق لاسلكية ومن ثم تقوم بإفراز كيميائى من الفينولات على أوراقها إما تُنفِّر الحشرات المهاجمة أو توقف نموها فتعيق استمرار نسلها وتتقى شر هجمات تالية. وكان أول من نبه إلى هذه الظاهرة هو الكيميائى وعالم الحيوان ديفى رودز، ومن بعده أثبت الفيزيائى إيد فاجنر من جامعة تينسى أن صرخات نجدة الأشجار إنما تتكون من نبضات كهربية صغيرة رصدها على شاشات رادار بحثى وأسماها الموجات W، وهى مع إفراز الفينولات تكوِّن حزمة آليات رصد وتحذير ومواجهة لهجمات السطو على أوراقها، وبمفهومنا البشرى فإن لديها فعاليات شُرَطية لحماية أمنها واستمرار حياتها. وهذا دليل جديد على أهمية هذا الجهاز بكل صوره فى كل الأحياء والحياة، وإلا اختل التوازن وانقرضت أنواع لم تجد فى نفسها ولا لنفسها وقاية أو حماية.
«لم أشعر بأهميتى كضابط شرطة مثل الآن»، يخبرنى ضابط برتبة مقدم تعرفت عليه فى الفترة الأخيرة فى أحد الأماكن العامة التى أجلس لأكتب فيها، ويحدث أن نتجاذب أطراف الحديث كلما التقينا فى الثقافة، فهو على وشك مناقشة رسالة دكتوراه فى التاريخ، وهو لم يقل ما قاله من منطلق «احنا اسيادهم» التى تبجح بها أحد قادة شرطة العهد البائد القتلة، ولكن من منطلق اكتشافه لضخامة دور الشرطة فى كل مناحى الحياة المصرية على أرض الواقع المعيش، من السياحة إلى الصناعة إلى الزراعة إلى حركة المرور فى الشوارع. وإننى أتفهَّم صدق تقديره، بل أزيد عليه الآن، أنه ما من ديمقراطية حقيقية نسعى إليها بدون إعادة بناء ودعم حقيقى لجهاز الشرطة، فها نحن نرى البلطجة التى تشهر السكاكين لتفسد احتفال العمال المتحررين حديثا بعيدهم، والهمجية التى تتشاجر بالكراسى والمطاوى فى مؤتمر لأحد مرشحى الرئاسة، واشتباكات حافة العنف فى المساجد لاختطاف منابر الخطابة، أو مظاهرات الصراخ المتجاوز حول الكاتدرائية، ناهيك عما يحدث فى أطراف الحضر وعلى الطرق من عمليات سلب واختطاف وسرقة بالإكراه!
إيمانى بالأهمية الفائقة لجهاز الشرطة ليس وليد اليوم ولا نتيجة الألم من حوادث إجرام اللحظة الراهنة، فهو خلاصة يقين فى أهمية حراسة الحياة التى تؤديها أجهزة شرطة الحياة فى كل الأحياء، لهذا أتميز غيظا من «هرتلة» بعض التصريحات الوزارية وغير الوزارية التى تتكلم عن مشاريع «كُبرى» فى هذه المرحلة، من ممر التعمير إلى المحطات النووية، مرورا بمشروع زويل. وهذه ليست مجرد أحلام أو أمانى مشروعة، بل هى تعبير عن فقدان بوصلة مرشدة إلى الاتجاه الصحيح فى موقع حرج، وغياب تصور علمى جاد ومسئول عن الأولويات العاجلة التى ينبغى أن يكون الأمن على رأسها الآن، وجهاز الشرطة هو قلب هذا الأمن الذى بالكاد، وبجهد عظيم النجاح إذا قيس بضعف الإمكانيات ومحدودية الفترة الزمنية بعد جريمة التفريغ الأمنى، استطاع أن يستعيد بعض نبضه السوى. وكمواطن أعزل يمشى على قدميه ويتابع الأخبار ويعرف كثيرا من الحقائق الواقعية فى الشارع، أستطيع أن أقول بأن أهم إنجاز فى وزارة الدكتور شرف، وعلى الرغم من محدودية هذا الإنجاز النسبية، هو ما قدمته وزارة الداخلية التى يقودها رجل صريح وبسيط وحاسم هو اللواء منصور العيسوى، مع آلاف من الضباط الشرفاء الذين عادوا إلى مواقعهم برغم الانكسار ووقاحة التعديات عليهم سواء نتيجة الجهل أو بانتهازية الإجرام، وهم شرفاء قطعا، ليس فقط بدليل عودتهم التى تقاوم الانكسار الذى لم يكن لهم فيه يد، ولكن لأنهم لم يكونوا حرامية ولا مرتشين فهم لا يمتلكون إلا وظائفهم وإلا كانوا تركوها كمن سرق وترك أو اغتنى فاستغنى عن التعرض لإهانة السفهاء أو لتهديد المطاوى وماء النار والرش والرصاص الذى تكاثر بين أيدى قطاع الطرق والبلطجية السائبين والخارجين على القانون الذين هم فى معظمهم حصاد حصرم نظام حسنى مبارك وعياله وثعالبه وجراده وذئابه وأفاعيه التى اصطنعت جريمة الفراغ الأمنى التى ينبغى أن يُحاكَم مدبروها بتهمة الخيانة العظمى، لأنها ليست أقل من ذلك.
عندما سمعت الدكتور شرف يقول بأن وزارته ليست وزارة تسيير أعمال بل وزارة للخروج من عنق الزجاجة، تفاءلت قليلا، لأن هذه الوزارة ينبغى أن تكون وزارة إنقاذ وتطهير وتجهيز لما يليها، فهى أهم مما يليها، لأنه بدون هذا الإنقاذ والتطهير والتجهيز، لن يكون هناك برلمان جيد ولا دستور قويم ولا حكم رشيد، فالانتخابات القادمة حتى وإن جاءت حرة، فلن تكون نزيهة طالما ظلت نزاهتها مهددة بعصى وسكاكين البلطجة ورشاوى شراء الأصوات ناهيك عن هوج الشحن والدعاية المتجاوزين لأية مواثيق قانونية وحضارية. ومن ثم أرى أن تقوية الأمن العادل والحاسم والصارم صرامة تطبيق القانون على الكافة، هو مع الأمن الغذائى، وطبقا لقاعدة هرم «ابراهام ماسلو» لتدرج الاحتياجات البشرية، أهم عناصر استقرار المجتمعات.
لقد اتضح أن الثلاثة عشر مليارا التى
كانت تُنفق على أمن النظام الساقط، لم تكن موجهة أبدا لدعم جهاز الشرطة الذى يصون أمن الناس، لا ضباط ولا تجهيزات ولا مرافق شرطية إلا ما ندر، فالمليارات كانت تذهب لضمان ولاء وانصياع كبار قيادات الداخلية لعصابة النظام السابق وحماية تجاوزاتهم وتشريفات مواكبهم وقمع معارضيهم، بينما كان الضابط العادى حتى بعض الرتب غير الصغيرة، يعانى كأى موظف دولة بينما راتبة لا يعادل واحدا من الألف من رواتب ذوى الحظوة من قادة داخلية النظام الساقط، ناهيك عن السرقات والاختلاسات والإتاوات ومغارات النفقات السرية. وفى ظل ذلك الفساد لم يتم تطوير تجهيزات ومرافق الشرطة كما يليق ببلد كمصر، فسيارات النجدة ظلت متهالكة والسنترالات متخلفة الطراز ومكاتب معظم أقسام الشرطة تشبه غرف الفيران، أما الضابط المنوط به مواجهة مجرمين بسيوف وسنج وزجاجات مولوتوف وماء نار ورش ورصاص، فكان ولايزال مطلوبا منه ومن جنوده أن يحموا أنفسهم بأياد شبه مجردة وصدور عارية فى أغلب الأحوال.
أمام ميراث ثقيل هذا شأنه، ولأن إحداث تغيير ونهضة شاملة فى جهاز كبير وخطير كجهاز الشرطة أمر يتطلب جهدا ووقتا، فلابد من اللجوء لإسعافات عاجلة دون نسيان البدء فيما هو ضرورى وآجل. وهناك اقتراح أراه عاجلا وسريع الأثر من الناحيتين العملية والنفسية سواء لتعزيز هيبة الشرطة لدى الجمهور أو رفع معنويات أفراد الشرطة داخل أنفسهم، ففى مجال التجهيز ينبغى أن يتم الدفع بأسطول من سيارات شرطة حديثة مجهزة بوسائل الحماية والاتصال المتطورة لجعل الدوريات واسعة الانتشار ورادعة المظهر وسريعة الوصول إلى أهدافها وقادرة على التجمع بأعداد وافية عند الضرورة، إضافة لتزويد الضباط بقيود لشل حركة المجرمين المقاومين أو المهددين بالعنف حال الضرورة القانونية لتوقيفهم، مع توفير أداة حماية ذاتية للضباط والأفراد كالهراوات الصادمة التى يحملها أفراد شرطة البلدان المتقدمة لردع المجرمين حال لجوئهم للعنف، والتى كان النظام الساقط يوفرها لا لردع المجرمين والبلطجية والخارجين على القانون بل لقمع معارضيه السياسيين المسالمين.
قد يقال إن تجهيزات كهذه تتطلب عشرات وربما مئات الملايين، ولا أظن أنها مستعصية التحصيل سواء بطلب منح خارجية أو عربية فى شكل عينى، وإن لم يكن فبتوفير المبالغ المطلوبة من الميزانية العامة، فهى أولوية قصوى الآن، فما من سياحة يمكن أن تعود فى ظل هشاشة أمنية، ولا أرض زراعية يمكن حمايتها من التبوير الغبى إلا بيقظة شرطية، ولا مصانع تدور بثقة بينما يتهدد عامليها ومستلزماتها ومنتجاتها مجرمون من كل صنف ولون.
فالاستثمار العاجل فى تدعيم أداء الشرطة له مردود اقتصادى أكيد، ناهيك عن المردود المعنوى فى أمة يتهددها الخوف بعد إنجاز تاريخى كبير حققته بدم شهدائها وبسالة ونقاء أفضل أبنائها، فالهشاشة الأمنية مغرية لكثيرين ممن يخافون ولا يختشون ويعربدون الآن فى شوارعنا ومرابع حياتنا، سواء من فلول وذيول الفساد السابق، أو من بلطجيته الذين كان يوظفهم فى التزوير والردع الإجرامى لمخالفيه، ولا تختلف عن هؤلاء البلطجية كثيرا جحافل الهمجيين والجانحين الجدد.
لولا الشرطة من خلايا الأجهزة المناعية فى دمائنا لقضت البشرية بالسرطان أو الأوبئة وهى فى مهدها، ولولا الشرطة فى ممالك النحل لسرقت الدبابير والدببة كل عسل يبقى للبشرية، ولولا الشرطة فى كيمياء وكهرباء نجدة الأشجار، لأبادت جوائح الجراد والهوام والدواب خضرة الدنيا وماتت الحياة. رُحماك يارب الحياة.
لقد وجدتُ الشرطة ماثلة فى الجهاز المناعى داخل أجسامنا وأجسام كل الكائنات، ووجدتها فى مجتمعات الأفيال والذئاب والطيور والنحل والنمل كما البشر، وعثرت عليها مؤخرا عند الشجر! فالشجر الذى لا يمتلك مثلنا ومثل كل الثدييات رد فعل فورة الأدرينالين عند الخطر «اضرب أو اهرب»، عندما يتعرض لهجمة من جائحة جراد أو غيوم فراشات العث الأسود أو وباء من اليرقات كما يحدث لأشجار غابات الحور والبتولا فى آلاسكا، فإن الأشجار تُصدر تحذيرات لبعضها البعض بطرق لاسلكية ومن ثم تقوم بإفراز كيميائى من الفينولات على أوراقها إما تُنفِّر الحشرات المهاجمة أو توقف نموها فتعيق استمرار نسلها وتتقى شر هجمات تالية. وكان أول من نبه إلى هذه الظاهرة هو الكيميائى وعالم الحيوان ديفى رودز، ومن بعده أثبت الفيزيائى إيد فاجنر من جامعة تينسى أن صرخات نجدة الأشجار إنما تتكون من نبضات كهربية صغيرة رصدها على شاشات رادار بحثى وأسماها الموجات W، وهى مع إفراز الفينولات تكوِّن حزمة آليات رصد وتحذير ومواجهة لهجمات السطو على أوراقها، وبمفهومنا البشرى فإن لديها فعاليات شُرَطية لحماية أمنها واستمرار حياتها. وهذا دليل جديد على أهمية هذا الجهاز بكل صوره فى كل الأحياء والحياة، وإلا اختل التوازن وانقرضت أنواع لم تجد فى نفسها ولا لنفسها وقاية أو حماية.
«لم أشعر بأهميتى كضابط شرطة مثل الآن»، يخبرنى ضابط برتبة مقدم تعرفت عليه فى الفترة الأخيرة فى أحد الأماكن العامة التى أجلس لأكتب فيها، ويحدث أن نتجاذب أطراف الحديث كلما التقينا فى الثقافة، فهو على وشك مناقشة رسالة دكتوراه فى التاريخ، وهو لم يقل ما قاله من منطلق «احنا اسيادهم» التى تبجح بها أحد قادة شرطة العهد البائد القتلة، ولكن من منطلق اكتشافه لضخامة دور الشرطة فى كل مناحى الحياة المصرية على أرض الواقع المعيش، من السياحة إلى الصناعة إلى الزراعة إلى حركة المرور فى الشوارع. وإننى أتفهَّم صدق تقديره، بل أزيد عليه الآن، أنه ما من ديمقراطية حقيقية نسعى إليها بدون إعادة بناء ودعم حقيقى لجهاز الشرطة، فها نحن نرى البلطجة التى تشهر السكاكين لتفسد احتفال العمال المتحررين حديثا بعيدهم، والهمجية التى تتشاجر بالكراسى والمطاوى فى مؤتمر لأحد مرشحى الرئاسة، واشتباكات حافة العنف فى المساجد لاختطاف منابر الخطابة، أو مظاهرات الصراخ المتجاوز حول الكاتدرائية، ناهيك عما يحدث فى أطراف الحضر وعلى الطرق من عمليات سلب واختطاف وسرقة بالإكراه!
إيمانى بالأهمية الفائقة لجهاز الشرطة ليس وليد اليوم ولا نتيجة الألم من حوادث إجرام اللحظة الراهنة، فهو خلاصة يقين فى أهمية حراسة الحياة التى تؤديها أجهزة شرطة الحياة فى كل الأحياء، لهذا أتميز غيظا من «هرتلة» بعض التصريحات الوزارية وغير الوزارية التى تتكلم عن مشاريع «كُبرى» فى هذه المرحلة، من ممر التعمير إلى المحطات النووية، مرورا بمشروع زويل. وهذه ليست مجرد أحلام أو أمانى مشروعة، بل هى تعبير عن فقدان بوصلة مرشدة إلى الاتجاه الصحيح فى موقع حرج، وغياب تصور علمى جاد ومسئول عن الأولويات العاجلة التى ينبغى أن يكون الأمن على رأسها الآن، وجهاز الشرطة هو قلب هذا الأمن الذى بالكاد، وبجهد عظيم النجاح إذا قيس بضعف الإمكانيات ومحدودية الفترة الزمنية بعد جريمة التفريغ الأمنى، استطاع أن يستعيد بعض نبضه السوى. وكمواطن أعزل يمشى على قدميه ويتابع الأخبار ويعرف كثيرا من الحقائق الواقعية فى الشارع، أستطيع أن أقول بأن أهم إنجاز فى وزارة الدكتور شرف، وعلى الرغم من محدودية هذا الإنجاز النسبية، هو ما قدمته وزارة الداخلية التى يقودها رجل صريح وبسيط وحاسم هو اللواء منصور العيسوى، مع آلاف من الضباط الشرفاء الذين عادوا إلى مواقعهم برغم الانكسار ووقاحة التعديات عليهم سواء نتيجة الجهل أو بانتهازية الإجرام، وهم شرفاء قطعا، ليس فقط بدليل عودتهم التى تقاوم الانكسار الذى لم يكن لهم فيه يد، ولكن لأنهم لم يكونوا حرامية ولا مرتشين فهم لا يمتلكون إلا وظائفهم وإلا كانوا تركوها كمن سرق وترك أو اغتنى فاستغنى عن التعرض لإهانة السفهاء أو لتهديد المطاوى وماء النار والرش والرصاص الذى تكاثر بين أيدى قطاع الطرق والبلطجية السائبين والخارجين على القانون الذين هم فى معظمهم حصاد حصرم نظام حسنى مبارك وعياله وثعالبه وجراده وذئابه وأفاعيه التى اصطنعت جريمة الفراغ الأمنى التى ينبغى أن يُحاكَم مدبروها بتهمة الخيانة العظمى، لأنها ليست أقل من ذلك.
عندما سمعت الدكتور شرف يقول بأن وزارته ليست وزارة تسيير أعمال بل وزارة للخروج من عنق الزجاجة، تفاءلت قليلا، لأن هذه الوزارة ينبغى أن تكون وزارة إنقاذ وتطهير وتجهيز لما يليها، فهى أهم مما يليها، لأنه بدون هذا الإنقاذ والتطهير والتجهيز، لن يكون هناك برلمان جيد ولا دستور قويم ولا حكم رشيد، فالانتخابات القادمة حتى وإن جاءت حرة، فلن تكون نزيهة طالما ظلت نزاهتها مهددة بعصى وسكاكين البلطجة ورشاوى شراء الأصوات ناهيك عن هوج الشحن والدعاية المتجاوزين لأية مواثيق قانونية وحضارية. ومن ثم أرى أن تقوية الأمن العادل والحاسم والصارم صرامة تطبيق القانون على الكافة، هو مع الأمن الغذائى، وطبقا لقاعدة هرم «ابراهام ماسلو» لتدرج الاحتياجات البشرية، أهم عناصر استقرار المجتمعات.
لقد اتضح أن الثلاثة عشر مليارا التى
كانت تُنفق على أمن النظام الساقط، لم تكن موجهة أبدا لدعم جهاز الشرطة الذى يصون أمن الناس، لا ضباط ولا تجهيزات ولا مرافق شرطية إلا ما ندر، فالمليارات كانت تذهب لضمان ولاء وانصياع كبار قيادات الداخلية لعصابة النظام السابق وحماية تجاوزاتهم وتشريفات مواكبهم وقمع معارضيهم، بينما كان الضابط العادى حتى بعض الرتب غير الصغيرة، يعانى كأى موظف دولة بينما راتبة لا يعادل واحدا من الألف من رواتب ذوى الحظوة من قادة داخلية النظام الساقط، ناهيك عن السرقات والاختلاسات والإتاوات ومغارات النفقات السرية. وفى ظل ذلك الفساد لم يتم تطوير تجهيزات ومرافق الشرطة كما يليق ببلد كمصر، فسيارات النجدة ظلت متهالكة والسنترالات متخلفة الطراز ومكاتب معظم أقسام الشرطة تشبه غرف الفيران، أما الضابط المنوط به مواجهة مجرمين بسيوف وسنج وزجاجات مولوتوف وماء نار ورش ورصاص، فكان ولايزال مطلوبا منه ومن جنوده أن يحموا أنفسهم بأياد شبه مجردة وصدور عارية فى أغلب الأحوال.
أمام ميراث ثقيل هذا شأنه، ولأن إحداث تغيير ونهضة شاملة فى جهاز كبير وخطير كجهاز الشرطة أمر يتطلب جهدا ووقتا، فلابد من اللجوء لإسعافات عاجلة دون نسيان البدء فيما هو ضرورى وآجل. وهناك اقتراح أراه عاجلا وسريع الأثر من الناحيتين العملية والنفسية سواء لتعزيز هيبة الشرطة لدى الجمهور أو رفع معنويات أفراد الشرطة داخل أنفسهم، ففى مجال التجهيز ينبغى أن يتم الدفع بأسطول من سيارات شرطة حديثة مجهزة بوسائل الحماية والاتصال المتطورة لجعل الدوريات واسعة الانتشار ورادعة المظهر وسريعة الوصول إلى أهدافها وقادرة على التجمع بأعداد وافية عند الضرورة، إضافة لتزويد الضباط بقيود لشل حركة المجرمين المقاومين أو المهددين بالعنف حال الضرورة القانونية لتوقيفهم، مع توفير أداة حماية ذاتية للضباط والأفراد كالهراوات الصادمة التى يحملها أفراد شرطة البلدان المتقدمة لردع المجرمين حال لجوئهم للعنف، والتى كان النظام الساقط يوفرها لا لردع المجرمين والبلطجية والخارجين على القانون بل لقمع معارضيه السياسيين المسالمين.
قد يقال إن تجهيزات كهذه تتطلب عشرات وربما مئات الملايين، ولا أظن أنها مستعصية التحصيل سواء بطلب منح خارجية أو عربية فى شكل عينى، وإن لم يكن فبتوفير المبالغ المطلوبة من الميزانية العامة، فهى أولوية قصوى الآن، فما من سياحة يمكن أن تعود فى ظل هشاشة أمنية، ولا أرض زراعية يمكن حمايتها من التبوير الغبى إلا بيقظة شرطية، ولا مصانع تدور بثقة بينما يتهدد عامليها ومستلزماتها ومنتجاتها مجرمون من كل صنف ولون.
فالاستثمار العاجل فى تدعيم أداء الشرطة له مردود اقتصادى أكيد، ناهيك عن المردود المعنوى فى أمة يتهددها الخوف بعد إنجاز تاريخى كبير حققته بدم شهدائها وبسالة ونقاء أفضل أبنائها، فالهشاشة الأمنية مغرية لكثيرين ممن يخافون ولا يختشون ويعربدون الآن فى شوارعنا ومرابع حياتنا، سواء من فلول وذيول الفساد السابق، أو من بلطجيته الذين كان يوظفهم فى التزوير والردع الإجرامى لمخالفيه، ولا تختلف عن هؤلاء البلطجية كثيرا جحافل الهمجيين والجانحين الجدد.
لولا الشرطة من خلايا الأجهزة المناعية فى دمائنا لقضت البشرية بالسرطان أو الأوبئة وهى فى مهدها، ولولا الشرطة فى ممالك النحل لسرقت الدبابير والدببة كل عسل يبقى للبشرية، ولولا الشرطة فى كيمياء وكهرباء نجدة الأشجار، لأبادت جوائح الجراد والهوام والدواب خضرة الدنيا وماتت الحياة. رُحماك يارب الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق